القِطار رقم ٨٨

    " كانت حذلقته تؤهله لاصطياد الذباب في الهواء " 
أذكر أنني ضحكت بخفّة حين قرأت وصف زافون للدون جوستابو برسلوه في رائعته ظل الريح ، و لم أفكّر حينها أنّني سألتقي بأحدٍ له النصيب الكافي من الحذلقة التي تجعله يتفوّق على نظيره ،  الدون جوستابو برسلوه ، وكان هذا الشرف من نصيب  سعادة الأستاذ الدمنهوري .

ركبتُ القطار لأولّ مرّة مع والدي وكان هذا حوالي العام ٢٠٠٥ م ، و تنتابني الدهشة - ومشاعر غزيرة - حين أدرك أنّ ثماني عشرة عامًا مرّت منذ تلك الذكرى ، وأستغرب أيمّا استغراب حين أشعر بِقصر الثماني عشرة عامًا ، وكأنّها رمشة عين ، و على النقيض أشعر بطولِ هذه الرحلة ، وكأنني حُبست بين جدران القِطار لثلاثين سنة لا ثلاثين دقيقة - وأعزّي هذا للسيّد القدير الدمنهوري -.
ويبدو أنّ فضل الله محمد كان محقًّا حين كتب :
الغريبة الساعة جمبك تبدو أقصر من دقيقة 
والدقيقة وانت مافي مُرّة ما بنقدر نطيقا 
و أحسب أنّني أعيش الشعور المناقض الآن ، الذي لم يتطرّق له فضل الله محمد ولم يتغنًّ به ود الأمين - ولم يتخذه الفيزيائيون السودانيون  تفسيرًا لنسبية آينشتاين - .
      مضى حوالي عشرين دقيقة من تحرّك القطار من محطة الإسكندرية ، وتفصلنا دقيقتين او ثلاث من الوصول لمحطّة سيدي جابر ، وخلال هذه المُدّة حصل الأستاذ محمد - والذي يُفضِّل أن يُنادى بِسعادة الأستاذ الدمنهوري- على لقب الأكثر ظرافة وفقًا لسيّدة بدوية كبيرة كانت تجلس معنا في نفس المقطورة  ، وأنا أسمّي ظرافته هذه حذلقة ، إذ بدأ حديثه معي بسؤالي من جنسيتي فأجبته قائلة : السودان .
     و توقعت الإجابة المعتادة ، وردّدها عقلي تلقائيًا " أجدع ناس " و كان هذا ردّه فعلًا بيد أنّ الابتسامة التي وجهها لي كانت أوسع من الابتسامة التي تعودت أن أراها حين أسمع نفس الرد و تهيأ لي أنني  سمعت همسًا بداخلي يجبرني على تصديق مجاملته. 
    ولم يبخل عليّ بأن شرح مفهومه عن الحرب القائِمة في السودان والتي وصفها بالحرب العبثية والممّولة من جهات خارجية ، و ذكر علاقة نجيب ساويرس بحميدتي - وهنا تقمّص تمامًا دور السياسي المحنّك - .
    لاحقًا بدأ سعادة الأستاذ الدمنهوري بتعريف نفسه ، يقول أنّه يعرّف نفسه ببلده دمنهور ، الحضارة الممتدة لآلاف السنين و الحكاوي الكثيرة في بلده وطبعًا لم يخلُ هذا من إلقاء بعض النِكات التي يراها هو في قمة الفكاهة وأراها أنا- غصبًا عنّي - في قمة الفكاهة.
      ولم أستطع - خوفًا على مشاعره - أن أتجاهل حديثه ونكاته وفضّلت أن أجعل من كياسته وظرافته الزائدة عن حدّها - وأعتقد أنّها تُسمى حذلقة - موضوعًا يملأ صفحة أو اثنتين من مذكراتي البائِسة ،  وما زادني إقبالًا على قراري هذا هو تصريحه بالنزول عند محطة طنطا ، والاستماع لحديثه لخمس وعشرين دقيقة مقبلة ليس سيئًا - بل كارثيًا - إلّا أنني صبّرت نفسي بدراسة ملامحه ، وحديثه ، واللب السوريّ الذي قدمته السيدة البدوية لكلٍّ مِنّا ، وتجاهلت الجو الحار.
     وددتُ إلتقاط صورة للمشاعر الظاهرة والعفوية في عيون الركاب ، ولربّما كان أكثر منظر أردت توثيقه هو منظر السيدّة البدوية ، تحملُ في يدها كيس اللب و تستمع باهتمام وتركيز لأحاديث الدمنهوري و كأنّه يعطيها العالم بأحاديثه ، و لم أستطع تصوير المشاعر - لا لأنّها ليست قابلة للتصوير - ولكن لأنني أحمل معي هاتف نوكيا صغير جار به الزمن.
     ودّعني حين نزوله ، ولاحظت أنّ السيدة البدوية على وشك أن تغط في نومٍ عميق- لربّما كانت حكايات الدمنهوري بمثابة قصص ما قبل النوم - ، و راقبت رحيل الدمنهوري بشبّاك القِطار و توافد الركّاب الجدد حيث كانت ملامح الإمتعاض ظاهرة على بعضٍ منهم و أعزّي هذا لكونهم يركبون القطار  رقم ٨٨ أول مرّة ولا يدركون مواعيده غير الدقيقة ، ولعلّهم صدقوا أنّ خدمات القطار ستوازي اسمه ( الروسيّ).
     لمحتُ شابًّا أسمر يظهرُ ملامحًا ممتعضة و يقف بعيدًا عن الازدحام في باب القطار ، و لم أدرك جنسيته لكنني فضّلت أن يكون سودانيًا - على الأقل في مخيلتي -  ، ومن مكاني هذا وعلى بعد أكثر من عشرة أمتار لاحظت الشيب في شعره ، والنظرة الضائعة في عينيه ، وبدا لي - لوهلة- أنّه يرى ذكرياته لا الزِحام أمامه ، تابعت تقدمه نحو القِطار و تأكده من التذكرة في يده و ابتسمت بخفّة علّه ظنّ أنّ الروسيّ هذا سيكون ببرودة موسكو .
  وفضّلت أن أرسم في مخيلتي حياته وأفسّر ملامحه حتى وصولي لمحطة الجيزة ، أي أنّه  - ومن غير درايته - سيكون أنيسًا لخيالي ، وأعتقد أنّ مراقبته أفضل من سماع قصة الحضارة الممتدة لدمنهور. 
   لحسنِ حظّ مخيلتي لم يجلِس الشاب بعيدًا عن مرأى عينيّ وكان ذلك بعد أن - كرمش - ورقة نقدية في يد أحد العُمّال و خُيِّل لي أنني سمعت العامل يقول له " كل سنة وانت طيب "  .
     كان يجلس وحيدًا وأظنّ أنّه يفضّل الجلوس مع ذكرياته بدلًا من الجلوس مع نُسخ بشرية ، كان يجلس أمامه شاب تظهر الريبة والهلع في ملامحه بكلّ وضوح .
   لم ينبس ببنت شفة و فضّل - مثلي- أن يراقب الآخرين و لكن النظرة في عينيه كانت غريبة ، واهمة ، وكأنّه يرى شيئًا مغايرًا أمامه ، وكأنّه لا يدرك ماهيته ، تبحرُ عينيه بلا أشرِعة ، واتتني تخيلات عمّا يدور بخياله - بنيتها على ضربة الشمس الواضحة في وجهه - يبدو أنّه قَدِم إلى مِصر قبل فترة ليست بالطويلة - غالبًا -بطريقة غير رسمية ،  وربّما تنهكه الحرب - كما تنهكني- و تؤرقه ذكرياته في السودان ، و أحسب أنّ شخصًا مثله لا يشعرُ بوجوده إلّا في وطنه ، ولربّما كان قد تلقّى خبر وفاة ، أو رسالة وداع ، أو أنّه يُعاني من صداعٍ حاد جرّاء انتظاره للروسيّ في المحطة  ، لا أدري .
     جعلتني رؤيته أتذكر ما لا أفلح في نسيانه إلا سويعات قليلة ، ذكرياتي وحنيني إلى الخرطوم ، وهويتي الضائعة ، الوطن البعيد لكِن القريب ، وتهيأ لي أنّ دمعة هربت من عينيّ ،  و كعادتي هممتُ بمسحها ، وانتبهت لصوت شخير السيّدة البدوية و حولت نظري بعيدًا نحو شُبّاك القطار ، و تجسدت ذكرياتي أمامي ، و خيّم الأسى وللمرّة الثانية استحضرتُ أحد المقولات المفضّلة عندي 

" ذلِك لا شيء يُشجّع على النسيان كما  تفعل الحرب ، إذ يهيمنُ علينا الجنوح إلى الصمت ونقنعُ أنفسنا بأنّ ما عشناه وفعلناه وعرفناه ما كان إلّا كابوسًا . الحروب تُعطّل الذاكرة وتثنينا عن تقصّي جذورها حتى ينطفيء صوت من يقوى على سردها . وحينها تعود الحروب ، باسم آخر وقناع جديد ، لتهدم القليل الذي أبقت عليه سابقاتها " 
 انتبهت للساعة واذا بخمسٍ وعشرين دقيقة قد مرّت ، ولم أشعر بها البتّة ، وقررتُ حينها أن أكتب له ، و سخِر عقلي منّي ، حيثُ أنني لا أعرف عنه سوى النظرة الضائعة في عينيه ، و صمته ، والشيب في شعره ، وتخيلاتي .
   ضحكتُ بخفّة أتخيل الفخر في عينيّ صديقتي - لمى- وهي المعروفة بنشرِ الحبّ والامتنان عبر كلماتٍ بسيطة لا تنتظر مقابلًا عليها ، و أراهنُ أنّها لم تخرج يومًا من مقهى - على سبيل المثال - دون أن تترك ورقة صغيرة رسمت فيها وجهًا مبتسمًا مصحوبة بعبارة بسيطة ومليئة بالحب.
   حين وصل القِطار لمحطة الجيزة لمحته جالِسًا ولم يقم ، و تساءلت أين محطة وصوله ، وصوت بعيد في داخلي أخبرني أنّ من مثله لا يملكون رفاهية محطات الوصول - وأنا لا أختلف عنه - ، ربّما سيصل يومًا ، حين تتبدد الذكريات والأماكن ، حين تتحرر ذواتنا من الحرب ، ويعود الوطن. 
     تعمدت المشي بجواره ولم ينتبه لي ، ولم أهتم فمرامي كان أن أرمي الورقة الصغيرة التي انتزعتها من دفتري الصغير ، وكتبتُ فيها القليل ممّا خالجني ، علّه يقرأ رسالتي حين  يصل إلى وجهته يومًا ما .



   

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا فقدت الجوافة حلاوتها؟ من وحيّ الطفولة

هل سيعيدني توتيل إليه؟