هل سيعيدني توتيل إليه؟
"انتي يا بنيتي لو قالوا ليك تسكني فوق في الجبل ولا تحت الشجر والغابة؟ "
" فوق في الجبل " أرد عليها ، آملة أن يكون هذا هو الجواب الصحيح .
" برّي منّك ، عشان كدا شكلو مااا عندك أخوان ، بتدوري الوحدة مالك ؟ "
لم يكن جوابي صحيحاً اذن هذه المرّة ، في المرّة السابقة حرصتُ على أن تكون إجابتي " تحت الشجر " ...وكان ردّ حبوبة " بري منّك" .
كنتُ طفلة صغيرة ، آبه لهذه النقاشات كثيراً ، كنتُ أتمنى أن تقول لي جدتي أنّ إجابتي صحيحة...وأنني لن أكون وحيدة.
كنتُ صغيرة لكي أدرك أنّ جدتي كانت تستهويها ملامحي الغاضبة في كلّ مرّة ، لكنّها لم تعلم يوماً أنّها بثّت فيّ الخوف من الوحدة .
الآن بعد أكثر من خمسة عشر عاماً ، أتمنى أن تعود طفولتي...وأسئلة حبّوبة لأخبرها أنّ " تحت الشجر و فوق الجبل كلهم واااحد ".
أذكر أنني بعدها قررت الثبات على إجابة واحدة ، " فوق في الجبل يا حبّوبة " و لم أكن أحزن لردّها الدائِم " بري منّك " .
وأظنّ أنني بدأتُ بحبّ توتيل بعد هذه النقاشات " الطفولية " .
كان توتيل شامخًا دومًا ، أراه كل صباح ، حين ذهابي للمدرسة ، حين أفتح شُبّاك غرفة جدتي المطلّة على الشارع ، كنت أراه كثيراً ، حتى اعتدت وجوده في حياتي ، بل أنني كنت أتخيل ملامحه ، رُبّما يبدو هذا سخيفاً ، لكنّ توتيل كان صديقي الأول ، كان يسمعني حين لم يفعل أحد.
كنت أتساءل دوماً عن سرّ شهرته ؛ برغم أنّه ليس الجبل الوحيد في كسلا ، فهناك جبل مُكرام كذلك .
أهي الأساطير المصاحبة له؟
هل نبع توتيل هو السر ؟
يقولون أنّ من يشرب من نبع توتيل سيعود مرةّ أخرى لا محالة ، وهنا أذكر أحد "ونسات " عمّ أونور وهو رجل أدروباوي أصيل ، عاش متنقلًا في أوروبا لأكثر من عقدين من الزمان ، لكنّه عاد حيث وجد نفسه ، فضّل أن يشرب قهوته يوميًا في الختمية أمام توتيل على أن يشرب ال " اسبريسو " أمام نافورة تريفي .
لا يُخرِجُ الخُلال من شعره ، يشرب قهوته ب " دوا بن تقيييل " ويستمع للموسيقى ، ويضحك .
عمّ أونور يدّعي أنّ نافورة الأمنيات في روما - نافورة تريفي - ، كذبة ، وأن نبع توتيل هو الحقيقة ، كنتُ حينها أضحك مستغربة ، وأقول بداخلي أنّه رجل درويش .
كنت ألتقي به في أيّام إجازاتي ، أذهب بقلبٍ مليء بكره نفسي ... وأعود بقلبٍ مليء بحبّ توتيل ...وكسلا ، والقهوة ذات " دوا البن التقييل".
"إذا التاكة السمراء بانت ..فإن
بي هواها مقيم والخيال طروق"
كان يردد هذا البيت للشاعر توفيق صالح جبريل ، ولم يكن ينظر إلى توتيل حين يقوله؛ بل ينظر لي ، واخجل أنا و أحتسي " جغمة " كبيرة من القهوة فأشعر بالحرارة في حلقي ..وخديّ.
كان مغرمًا بتوتيل وكسلا ، يحفظ قصيدة " حديقة العشاق " ، وأشعار الحلنقي و كل من عشق كسلا وجمالها .
كسلا أشرقت بها شمس وجدي
فهي في الحق جنّة الإشراق
كان صبحًا طلق المحيا نديًا
إذ حللنا حديقة العشاق
كان يلقي القصيدة في كلّ مرة نلتقي فيها ، وكان يضحك بصخب حين يصل للجزء " المخل للحياء " و يلاحظ خجلي ، فيصمت .
حدثني كثيرًا عن حسّان أبو عاقلة ، عن كجراي ، عن تاجوج والمحلق .
تاجوج بتكْتب بالشمال
منحوتَهْ في شكل اكتئاب
بتْكحَّل الإبل النحيلَهْ
بالمشاوير النبيلَهْ
وتعشِّي ضيفان القبيلَهْ
بالأناشيد الطويلَهْ
موهوبَهْ زي كل البنات
في الأسى المنْسُوج خيال
واتخيّلَت
إنو المُحلَّق حابَّهَا
تاجوج بتحْلِب من غيوم كسلا
المطر وتوزِّع القش والشجر
بتفرِّق الهم والكدر
حفيانَهْ تجري ورا السراب
تاجوج بتكتٍب بالحراب
تاجوج بتكتِب بالشمال
وبتْرتِّق التوب والنعال
وتمْرُق الهم الموكّر
في قلوب كل الرجال
تاجوج سؤال
تاجوج غزال
تاجوج مُحال
تاجوج خيال
اتخيّلَتْ انّو المحلّق ساكّهَا
بي طريق شاقِي الغمام
حكى لي كثيرًا عن طفولته ، عن شبابه ، وعن " تاجوجه" ، ارتبطت ذكرياتي بتوتيل به ، و بالقهوة ذات " دوا البن التقيييل ".
تعلّق قلبي بتوتيل ، فحتى في الأيّام التي لم يتواجد فيها عمّ أونور ، كانت روح توتيل تحتضنني وتحتضن وحدتي ، و أتذكر حديث جدتي ، هل كُتبت عليّ الوحدة لاختياري " فوق الجبل " ؟
الآن بعد أكثر من عشر سنوات ، تناجيني أحاديث عمّ أونور و أجدني أبحث عن الكتاب الذي أهداني إيّاه في آخر لقاءٍ لنا ، " قصائد من الشرق " لحسّان أبو عاقلة ، وبرغم أنّه ألقى على مسامعي معظم هذه القصائد إلّا أنّه أعطاني الكتاب.
مع إهداء بخطّ يده يقول
"إذا التاكة السمراء بانت ..فإن
بي هواها مقيم والخيال طروق"
أقرأ هذه القصائد ، وأعود لأيّامٍ بعيدة ، وأتساءل هل سيعيدني توتيل إليه؟
هُيام .
أبريل ٢٠٢٤
تعليقات
إرسال تعليق