لماذا فقدت الجوافة حلاوتها؟ من وحيّ الطفولة
" قبيل لاقيتو ..راكب بسكليتو
الشاب الظريف...القبل الشاطيء بيتو "
لا أسمع أبو داؤود لأولّ مرّة ، لكنني أبكي لأولّ مرة حين سماع " العجب حبيبي " ، وفي هذه اللحظة تُخالجني مشاعر عميقة ، وحزن عنيف.
لا أدري إن كانت هذه لعنة العشرينيات أم أنّه الوعي الذي يسبّونه ، و لا أهتم بتعريفه بقدر ما يهمني الألم الذي يصحبه ، حتى أنّ أستاذ " ممدوح" بات ينعتني ب شوبنهاور العصر ، و هذا يبدو مضحكًا بطريقة مؤلمة.
تبدو الذكريات جليّة أمامي ، تجعلني أنسى واقعي ، وألتحم مع مشاعري وأفكاري من زمن سحيق ، أذكر شام بوضوح ، أذكر صوته وأحاديثه ، أذكر الصلصال الذي كان يلعب به معي ، أذكر قُبعته الجينز الفريدة ، و أذكر حضوره القوي .
لا أعرف تاريخ اليوم - ولا أهتم - ، ولا أملك القدر الكافي من الأمل للتفكير في تاريخ الغد ، لكنني أملك الحسرة واللوعة الكافيتين للتفكير في يوم رحيل شام .
و شام يعني الحُب بلهجة أهل الساحل والشرق ، وكان له نصيب من اسمه يجعلني أذكره حتى بعد مرور أكثر من خمسة عشر عامًا على وفاته .
وان كانت ذكرياتي معه تتمحور حول ازعاجنا لعمّو بشير أو كما كان شام يناديه " أبو دومة " ، وعم بشير هذا كان عسكريًا متقاعدًا - والأعزب الأشهر - ، كان يحدثنا دومًا عن الحرب ، عن ذكرياته البعيدة و عن حكايات الندبات التي تزيّن جسده ، وأذكر ..أذكر بكلّ وضوح الحسرة في عينيه - برغم فكاهته الدائمة - حين يتحدّث عن صديقه الذي استشهد في توريت ، و لربّما انتقلت إليّ الحسرة ، حين فقدت شام .
ان كان " البسكليت " سيرتبط بكيانٍ ما ؛ فحتمًا سيرتبط بِشام ، ولا زلت أتساءل كيف لطفل صغير لم يتجاوز اثني عشر عامًا أن يملك كل هذه الحياة بداخله ؟
وأذكر الصباحات البهيّة ، حين يأتي شام راكبًا " بسكليته" ومرتديًا قبعته الجينز الفريدة ، يطرق باب منزلنا منتظرًا خروجي لأركب معه ، وبرغم خوف أمّي عليَّ وحرصها ؛ إلّا أنّها لم تكن تعترض كثيرًا على خروجي برفقته ، و أعزّي هذا لبلاغة شام وحديثه ...و لحبّات الجوافة التي يسلب بها قلب أمّي.
" قبيل لاقيتو ...راكب بسكليتو
الشاب الظريف ..القبل الشاطيء بيتو "
كان عمو بشير "يُشاغل" شام بأغنية أبو داؤود و يكمل كلمات الأغنية موجهًا أنظاره ناحيتي
" العجب حبيبي ... ما ردا لي تحية "
ويضحكُ شام ، و عمو بشير ، و أكتم ضحكتي أدّعي الخجل منهما ، وأشعر ...بطفولتي، وكُلّي..
أذهبُ برفقته لل"أكشاك" و يشتري هو الرغيف والسلطة ، وأستمتع أنا بلقب " حمّد ولد " الذي يطلقه عليّ باعة الأكشاك.
و نتشاركُ بعضها حبّات الجوافة المتبقيّة لدى شام وأذكر طعمها جيّدًا ، وكأنّها في ثغري ، أذكر طعمها الحُلو ، وخلّوها من الدود ، كانت طريّة ، سُكريّة ، ومليئة بدفء الطفولة ، و كنّا نلعب طويلًا بالصلصال - الذي كان مفضلًا لِشام- ، و أذكر موهبته في التشكيل ، وأجاري أنا حُبّه للصلصال بادعائي أنّني قادرة على عمل "لقيمات" بالصلصال ، ويضحكُ ساخرًا منّي.
ولا يؤلمني رحيل شام بقدر ارتباط رحيله بتكوين فكرة الموت في مخيلتي وإدراكي ، كنتُ في الثامنة من عمري حين خرجت أمي مسرعة من المنزل ، حين سمعتُ نواح النساء ، ولم أكترث ، حين أتى عم بشير وخلفه أمّي ، ولم أفهم لماذا احتضنني عم بشير باكيًا ، ومرددًا أن شام ..قد مات .
طيّب ، مات ، ما معنى الموت؟ ولم أبكِ .
وظنّت أمّي أنني ساذجة لأصدّق حكايتها عن رحيل شام للسماء ، ولم أتكلم كثيرًا ، ولم أبكِ .
أعطتني والدته قبعة الجينز الخاصة به لأحتفظ بها كتذكار ، ولم أفهم ، لكنني فضلّت ألّا أرتديها خشية أن يغضب منّي ..شام .
أمّا عم بشير ، كان يأتي ويخرجني من المنزل ويجلسني بجواره تحت شجرة النيم الظليلة و يحدثني كثيرًا ، و أسأله : " لماذا لا نغنّي العجب حبيبي؟" لربّما يعود شام و يضحك .
و غنيناها كثيرًا ، ولم يأتِ شام ، لعبت بطين الصلصال و شكلّت الطين بأشكالٍ كثيرة ، ولم يأتِ شام ، وكان أمامي حلٌّ أخير!
أن أُغضِب شام !
وماذا قد يغضب شام أكثر من العبث ب " بسكليته"؟ و ازددت جرأة وارتديت قبعة الجينز الخاصة به !
لكنّه لم يأتِ ، ولم أبكِ ، وتجاوزت الحد حين كسّرت تمثالًا صغيرًا كان قد صنعه بالطين...ولم يأتِ كذلك .
وارتبط الموت عندي بعدم مجيء شام ، و خفتُ من الموت ، من الرحيل ، وظللت لسنينٍ طويلة أنتظر عودة شام ، ولم يأتِ، ...ولم أبكِ.
وطوال هذه السنين المنصرمة توفي الكثيرون، بكيت عليهم ، و أدركت رحيلهم ، ولم أبكِ شام.
واليوم أضعتُ قبعته ، و وجدت رحيله ..وصدقته ، وبكيتُ شام ، في منتصف الموقف الجديد للمواصلات في المريوطية ، حين فقدت قبعته - بغبائي - أدركت رحيله ، وبرغم عدم مناسبة الزمان ولا المكان ، إلّا أنني بكيتُ كثيرًا ، و أدركت أخيرًا جواب سؤالي ، لماذا فقدت الجوافّة حلاوتها؟...
تعليقات
إرسال تعليق